بواسطة بشير يوسف الكحلوت بتاريخ 5 سبتمبر 2010 |
عودتنا أسعار الذهب أن ترتفع بقوة كلما حدث انكماش اقتصادي في الدول الصناعية الرئيسية، بما يترتب عليه قيام البنوك المركزية بخفض معدلات الفائدة على عملاتها، أو إذا حدث تدهور في سعر صرف الدولار- الذي تُقَوَّمُ به أسعار الذهب- فيرتفع سعر المعدن الأصفر للتعويض عن التراجع في سعر صرف الدولار، أو إذا حدث ارتفاع في سعر النفط بما يهدد بحدوث موجة عالية من الارتفاع في معدلات التضخم في العالم باعتبار أن الذهب ملاذ آمن للاستثمارات ويحمي من تدهور القيمة الشرائية للنقود الورقية. وقد شهدنا على مدى سنوات العقود الأربعة التي تلت قرار نيكسون الشهير فض ارتباط سعر الدولار بالذهب –عند سعر 35 دولار للأوقية – تذبذبات حادة في سعر الأوقية بوصولوها في عام 1980 إلى مستوى 840 دولار، ورغم هبوطها بعد عامين إلى نحو 267 دولار إلا أنها عادت إلى الارتفاع وتأرجحت ما بين 300-600 دولار حتى السنوات الأولى من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وخلال السنوات الخمس الأخيرة ارتفعت أسعار الذهب بشدة وسجلت مستويات قياسية بتجاوزها سعر الألف ومائة دولار قبل عدة سنوات قبل أن ترتد إلى أقل من ثمانمائة دولار في بداية الأزمة المالية العالمية، ثم إنها قد عادت في عامي 2009/2010 لتسجل أعلى مستوى تاريخي لها بتجاوزها لسعر 1250 دولار، فلماذا يحدث ذلك وما هي اتجاهات سعر الذهب في السنوات القادمة؟
بداية أشير إلى أن كل العوامل التي تدفع أسعار الذهب إلى الارتفاع في العادة قد تصادف أنها متواجدة في الفترة الحالية بشكل لافت للانتباه؛ فمن ناحية لا يزال الاقتصاد العالمي يعاني من تداعيات أكبر أزمة اقتصادية في التاريخ-بعد أزمة عام 1929، ورغم خروج بعض الاقتصادات الصناعية من الركود مؤخراً، إلا أن انتعاشها لا يزال هشاً ضعيفاً وقد فقد معظم قوته التي اكتسبها من برامج الدعم المالي والنقدي السخية التي قدمتها الحكومات إبان الأزمة. وفي حين لا زالت معدلات البطالة مرتفعة جداً في الولايات المتحدة وأوروبا، فإن الرئيس أوباما يخطط هذا الأسبوع للإعلان عن حزمة جديدة من برامج الدعم الاقتصادي لإنعاش اقتصاد بلاده. الجدير بالذكر أن برامج الدعم الاقتصادي المشار إليها قد أدخلت الدول الصناعية في أزمة الديون السيادية المتراكمة الناتجة عن عجوزات الموازنات العامة. وقد تفجرت هذه الأزمة في اليونان وكادت تعصف هذا العام بالاتحاد الأوروبي وباليورو، مما دفع دول أوروبا إلى تبني برامج تقشف صارمة في الإنفاق العام، وهو ما تعارض مع السياسة الأمريكية الداعية إلى مزيد من الإنفاق لتثبيت الانتعاش حتى لو كان ذلك على حساب تعاظم الدين العام في الولايات المتحدة إلى أكثر من 12 تريليون دولار.
وإذن فقد وصلنا إلى نقطة تتعارض فيها سياسات القوى الكبرى المسيرة لاقتصاد العالم والمعروفة بـ G7 ثم G8- بانضمام روسيا-، فكان أن تم توسيع هذا النادي ليشمل دولاً مؤثرة في الاقتصاد العالمي كالصين والهند والبرازيل والسعودية والمعروفة بإسم G20. ولكن هذا النادي الواسع أصبح كالجمعية العامة للأمم المتحدة محفلاً لتبادل الرأي دون القدرة على اتخاذ قرارات حاسمة وصائبة بسبب تعارض المصالح بين أعضائه. وفي ظل هذه الأوضاع الغائمة بدا للمستثمرين أن حدوث نمو حقيقي في الاقتصادات الصناعية قد يكون صعب المنال في السنوات القادمة، فكان أن أقبلوا على اقتناء الذهب بشدة فارتفعت أسعاره إلى أرقام فلكية رغم أن الذهب لا يولد في حد ذاته دخلاً نقدياً.
ومما دعم من هذا الاتجاه أن أسعار الفائدة المصرفية على العملات الرئيسية وخاصة الدولار والين واليورو، لا زالت منذ سنوات عند أدنى مستوى تاريخي لها، وهي قريبة من الصفر، مما يجعل اللجوء إلى الاستثمار في الذهب أمراً مجزياً خاصة مع ضعف مؤشرات الأسهم العالمية، وانتكاسة الاستثمار في العقارات.
ورغم أن الاقتصاد العالمي يعاني من أزمة ركود تبعها انتعاش هش، إلا أن أسعار النفط لا تزال مرتفعة نسبياً وتراوحت هذا العام بين 70-85 دولار للبرميل، وهو ما يصب في اتجاهين الأول إضعاف فرص حدوث نمو قوي في الدول الصناعية من ناحية، وتوفر سيولة إضافية لدى المصدرين يمكن أن يُوظف جانب منها في شراء المزيد من الذهب.-ولنتذكر أن ارتفاع سعر أونصة الذهب إلى ذروته الأولى في عام 1980 قد حدث إبان تجاوز سعر النفط آنذاك مستوى 40 دولاراً للبرميل-.
وهناك عامل رابع يعمل على رفع سعر الذهب ألا وهو القلاقل والحروب والتوترات السياسية في العالم، وفي حين أدى انتهاء الحرب الباردة وتفكك الإتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب العراقية الإيرانية إلى تراجع أسعار الذهب في النصف الثاني من التسعينيات، إلا أن تجدد الحروب في العراق وأفغانستان ولبنان وفلسطين واليمن والسودان ومناطق متفرقة من إفريقيا، وتنامي الحرب الباردة بين إيران من جهة وكل من إسرائيل والولايات المتحدة من جهة أخرى، قد أعطى الإقبال على شراء الذهب مبرراً إضافياً في السنوات الأخيرة.
ونعود إلى سعر صرف الدولار وتأثيره القوي على سعر الذهب فأشير إلى أنه قد تدهور في السنوات الماضية حتى منتصف عام 2008 أمام اليورو، فساهم انخفاضه في حدوث موجة الارتفاع الثانية في سعر الذهب، ثم ها هو اليوم يتدهور أمام الين الياباني ويصل إلى أدنى مستوى له في أكثر من 15 عاماً، كما أن الضغوط في مداولات قمة العشرين تعمل باتجاه خفض قيمة الدولار مقابل العملة الصينية، وهو ما يدفع المستثمرين في شرق آسيا نحو الذهب باعتبار أن ما يحدث للدولار قد يكون مقدمة لأنهيار النظام النقدي العالمي الراهن، تمهيداً لإنشاء نظام جديد متعدد الأقطاب، وذلك موضوع قد يحتاج إلى مزيد من التفصيل في مقال آخر.
وخلاصة ما تقدم أن أسعار الذهب تتجه إلى مزيد من الارتفاع في السنوات القادمة، طالما أن كل العوامل تدفع في هذا الاتجاه، ولن أستغرب في ظل تلك المعطيات أن يصل سعر الأوقية إلى 1500 دولار في مدى عامين أو ثلاثة على الأكثر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق